صورة من حديقة ريتان بارك في بكين

يكشف مؤلف كتاب "The Souls of China: The Return of Religion After Mao" إيان جونسون، عن تجربته عندما سافر إلى الصين، قائلاً "عندما جئت إلى بكين لأول مرة عام 1984، شعرت أن المدينة منسية، إنها عاصمة قديمة للمعابد والقصور والتي تعهد ماو يتحويلها إلى مدينة صناعية، تنتشر فيها المصانع والمداخن، ويخترق الدخان الأسود كل نافذة في المدينة، كما يخترق ملابس الناس الذين يركبون الدراجات أو الحافلات التي تعمل بالديزل، والآن من الصعب تخيل أن هذه المدينة المترامية الأطراف، كانت مركز مقدس في الصين، إلا أن طبيعة بكين تغيرت في القرن العشرين وخاصة بعد الاستيلاء الشيوعي عام 1949، حيث تم تدمير أسوار المدينة الكبيرة، والعديد من المعابد والأزقة المميزة لإفساح المجال لمجتمع صناعي ملحد، وفي الثمانينات أدت الإصلاحات الاقتصادية والتنمية العقارية، إلى محو ما تبقى من المدينة القديمة.

وتابع جونسون "على مر السنين شاهدت بعض من هذا التحول، أولاً كطالب ثم كصحافي والأن ككاتب ومُعلم، وشعرت مثل الكثير ممن أحبوا المدينة أن ثقافة بكين قد فُقدت، ولكن في السنوات الأخيرة شعرت أنني كنت مخطئًا، وأن ثقافة بكين لم تمت لكنها ولدت من جديد في زوايا المدينة بطرق غير متوقعة، حقًا إنها لم تعد مثل الماضي لكنها لا تزال حيوية وحقيقية، وألمح ذلك في مكانين هما معبد الشمس في الجزء الشرقي من المدينة والأخر هو معبد الطاوية في الجزء الغربي، وتعد هذه من الأماكن المنسية لكنها حظت بأهمية جديدة في السنوات الأخيرة في ظل البحث عن القيم والمعتقدات الصينية الجديدة في مجتمع ما بعد الشيوعية، وبالنسبة لوقتي في بكين فقد عشت دائما بالقرب من معبد الشمس، وبُني المعبد عام 1530 مع حديقة بمساحة 50 فدانًا، في حي جيانغومينواي الدبلوماسي، وهو واحد من 4 أضرحة عبد فيها الإمبراطور الأجسام السماوية ".

وأردف جونسون "على غرار كل قطعة في بكين أصيب المعبد بأضرار بالغ خلال الثورة الثقافية، في فترة العنف الشيوعي الراديكالي في الفترة من 1966 حتى 1976، حيث تعرضت كل أماكن العبادة للهجوم وتم تحطيم كافة الرموز والمذابح الدينية، وأصبحت الحديقة أرض للتخلص من الأنقاض عندما هدمت أسوار المدينة، وتعرفت على الحديقة بعد 8 سنوات من انتهاء هذه الفترة الصادمة، حيث درست اللغة الصينية والأدب في جامعة بكين في الفترة من 1984 حتى 1985، وذهبت إلى هذه المنطقة التي أصبحت منطقة دبلوماسية رئيسية في البلاد، وفي فترة ماو فتحت الصين أبوابها لبناء سفارات ومباني سكنية حديثة لإيواء الدبلوماسيين والصحفيين الأجانب، وأصبحت المنطقة مركزا دوليا من خلال (متجر الصداقة) وهو نادي دولي وفندق على الطراز الغربي يضم واحد من المخابز القليلة في المدينة التي تناولت منها الكرواسون، وأذكر المشي خلال الحديقة حيث أعيد بناء المذبح مؤخرًا إلا أن العديد من المباني بدت مهجورة، فيما تجرأ القليل من السكان لتجريب طيران الطائرات الورقية من المبانئ المتصدعة بينما كان الأطفال يعبثون حول الجدران مختبرين أصواتهم التي يمكن سماعها على بعد عشرات الأقدام".

واستكمل جونسون " في عام 1994 عدت إلى الصين للعمل كصحافي لمدة 7 سنوات، لأول مرة في بالتيمور صن وبعد ذلك لصحيفة وول ستريت جورنال، وانتهى بي الأمر بالانتقال إلى إحدى المجمعات الدبلوماسية، ومرة أخرى توجهت إلى معبد الشمس، وحينها كان هناك رسوم لدخول الحديقة جعلتها فارغة نسبيا، فالناس في الصين لا تزال فقيرة ولا يميلون إلى قضاء الوقت في التمرين على سبيل المثال حيث تذهب إلى عملك ثم تعود إلى المنزل وتستريح، وبالتالي كانت الحدائق للمناسبات الخاصة، ولكن بحلول الوقت الذي عدت فيه إلى الصين عام 2009 للعمل كاتب تغير كل ذلك، حيث حظت الصين بثلاث عقود من النمو الاقتصادي السريع، وبجانب الإنفاق على  حاملات الطائرات والألعاب الأولمبية والسكك الحديدية عالية السرعة أنفقت الأموال أيضا على الحدائق والمساحات الخضراء، اوكتسب معبد الشمس أشجارا جديدة وأزهار الزنبق في فصلي الربيع، إلا أن الأفضل للجميع أو ربما يكون الأسوء وفقا لوجهة نظرك أن السلطات تخلصت من رسوم الدخول، ما جعل الحديقة تحتضن السكان الحريصين على النشاط، وعلى عكس السنوات السابقة أصبحت الحديقة مملوءة بالصينيين الذين يمارسون الرياضة".

وأضافت جونسون " ولكن هذه الحاجة إلى التفاعل مع الفضاء الأخضر، تعارضت مع اتجاه آخر في الصين ممثل في تسليم المناطق العامة إلى الأغنياء، ومثلما كان هناك ممرات للدراجات في بكين أصبح هناك ممرات للسيارات وامتلأت الأرصفة بالدراجات النارية التي توصل وجبات الطعام الساخنة إلى الطبقة المتوسطة العليا وهو ما أدى إلى التضحية بأجزاء ضخمة من معبد الشمس لصالح أقلية ثرية، ومنذ حوالي عام 2000 تم تأجير ما يتراوح بين 15-20% من مساحة الحديقة إلى المطاعم الراقية والنوادي الاجتماعية الفاخرة وحدائق البيرة الألمانية وساحة اليوغا ومتجر للآثاث العتيق، ومتجر روسي وهو ما لا يمت بصلة للحديقة القديمة العظيمة، ومع فقدان الكثير من مساحة الحديقة تم تقليص معبد الشمس إلى المذبح الذي أعيد بناؤه وتلة وبحيرة صغيرة ومسار رئيسي واحد مزدحم للغاية، وتعد الحديقة أكثر من مجرد نافذة على حياة الناس اليومية، فبالنسبة للحكومة تعد وسيلة لزيادة شرعيتها حيث تدير السلطات متحف صغير، كما وضعت السلطات سياج من الصلب الكبير حول المذبح لإظهار جديتها في حماية التراث الثقافي، فضلا عن لوحة تشرح تاريخ المعبد".

وذكر جونسون " وبدأت الدولة الشيوعية تعيد الطقوس القديمة، وفي مارس/ أذار تم توظيف بعض من أصدقائي من المتقاعدين كمطربين هواة وموسيقيين في حفل ربيعي، حيث ارتدى نحو 30 منهم ملابس وقبعات تعود إلى عهد تشينغ، وساروا غلى المذبح برفقة أوركسترا صغيرة من الموسيقيين فيما ظهر شاب يرتدي زي الامبراطور وقام بعرض الطقوس تحت إشراف صارم من خبراء مكتب الشؤون الثقافية المحلية، وفي وقت لاحق انتشرت مقاطع الفيديو عبر وسائل الإعلام الاجتماعية مثل WeChat لتعزيز فكرة عودة طقوس الماضي، وتعد إعادة القيم التقليدية واحدة من سياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلا أنه مستحيل أن تعود البلاد إلى ما كانت عليه في فترة الثمانينات، وباعتباري نشأت في أسرة متدينة إلى حد ما كنت أتسائل عما يؤمن به الصينيون، ولم أرغب في أن يتبادلون معي نفس المعتقدات ولكن على الأقل يجب أن يؤمنو بشئ ما، إلا أن ذلك كان افتراضًا خاطئًا".

واستطرد جونسون "ركبت دراجتي لمدة ساعة حتى وصلت إلى معبد White Cloud، وهو المركز الوطني لدين السكان الأصليين في الصين وهو( الطاوية)، وهو دين يجمع بين المعتقدات الدينية الشعبية وتعاليم الفلاسفة مثل Lao-tzu و  Chuang-tzu ، ويعود معبد White Cloud إلى القرن 13 وهو مقر للجاومعية الطاوية الوطنية، وضم المعبد 5 قاعات لآلهة مختلفة لم تمسها يد الثورة الثقافية مع البخور والأشجار القديمة ما منحه شعورا بالخلود إلا أنه كان خاليا من المصلين، وبدت القاعات مثل الأماكن الرمزية للعبادة في البلدان الشيوعية، ويشبه المعبد معبد الشمس باعتباره بقايا حقبة ماضية، ولكن على مدى العقد الماضي  كان الصينيون يبحثون عن معنى في حياتهم. بعد عقود من اعتماد الأيديولوجيات الأجنبية مثل الفاشية والشيوعية والليبرالية الجديدة متسائلين عما تبقى من ثقافتهم" .

وأوضح جونسون "استثمرت الحكومة بذكاء وبشكل كبير في الأديان مثل الديانة الطاوية والبوذية ولكن بشكل أقل في المسيحية أو الإسلام، حيث حاول معبد  White Cloud استعادة بعض التراث الطبي التقليدي للصين من خلال فتح عيادة في جناح تم تجديده حديثا من المعبد، كما قامت الدولة ببناء أكاديمية طاوية جديدة لتدريب الكهنة، إلا أن رسوم الدخول البالغة 6.5 دولار أبقت الكثير من الناس خارج المعبد الذي امتلأ بالكهنة، وعلى جانبي المحور الرئيسي كان هناك سلسلتين جديدتين من الساحات في المعابد المخصصة لآلهة مختلفة، ويعد المتجر الأساسي لهدايا المعبد مكان يستحق الزيارة حيث يمتلئ بمنتجات غير عادية مثل ساعات الحائط المزينة برمز تاي تشي، فضلاً عن السيوف والجلباب وكذلك تماثيل على هيئات بشرية،

وبالمقارنة بالماضي تعد بكين اليوم منطقة حضرية خارجة عن السيطرة من خلال السيطرة على الطرق السريعة والمترو، ويشير المؤرخ الحضري جيفري ماير مؤلف (The Dragons of Tiananmen: Beijing as a Sacred City ) إلى أن العواصم الصينية تعكس أيديولوجية الحكم، ولا تزال بكين عاصمة دولة استبدادية، ما جعل بكين تعكس رسالة الدولة التي احتقرت التقاليد يوما ما لكنها تدعمها حاليا، ولذلك تغيرت المدينة إلى احترام السلطة والأديان التقليدية وتمييز الأغنياء أيضا، وكما قال السيد ماير (كانت بكين فكرة قبل أن تصبح مدينة)".